المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ودفنت الدبة!


أم عبد المنعم
01-07-2012, 02:17 AM
ودفنت الدبة!

سحبت بخفة قطعة الشوكولاتة من يد روان وهي تشاهد أفلام الكرتون وهربت بسرعة.. فصرخت وأخذت تجري خلفي..
- يا الدبة! .. أرجعي قطعتي.. لقد أكلتِ أربع قطع..!
لكني تجاهلتها وأسرعت أهرب منها وأنا أقضم الشوكولاته اللذيذة.. بينما انفجرت بالبكاء وأخذت تصرخ بغضب..
- انظري لشكلك.. ستنفجرين من كثرة الأكل أيتها الدبة!

أحسست بصفعة قوية.. فتوقفت..
كنت أعلم أنها تردد نفس الكلام كثيراً.. لكنها هذه المرة جرحتني حقاً..
أحسست أن لقطعة الشوكولاته طعماً مراً.. حتى بالكاد استطعت أن أبلعها.. وسقط ما تبقى منها في يدي على الأرض.. شعرت بأنني غبية وبليدة لأنني سمحت لنفسي أن أكون في هذا الموقف السخيف..
انسحبت بهدوء دون أن أنبس ببنت شفة.. ذهبت إلى غرفتي وأغلقت الباب..
نظرت إلى نفسي بالمرآة.. يا الله.. ما هذا؟.. كيف تركت نفسي لأصل لهذه المرحلة من البدانة.. إن جسمي بلا ملامح تقريباً.. لا خصر ولا عنق ولا سيقان.. كل شيء متساوي.. كرة مستديرة من جميع الجهات..
يجب أن أنحف يجب..
لكن.. الأكل لذيذ.. وأنا أحب الحلويات.. لا أستطيع أن أقاومها..
لكن.. يجب أن أغيّر من شكلي الذي جلب لي كل الهموم والمشاكل.. وجعلني موضع استهزاء وتندر الجميع.. يجب..
وقررت أن أبدأ نظاماً غذائياً صارماً منذ الغد..
وبالفعل بدأت..
ولكن في المدرسة.. في الفسحة.. سألتني نور..
- دانة..
ماذا تريدين؟
كرواسان بالجبنة أم بالزعتر؟
- لا شيء..
كنت أتلمظ وأنا أتخيل شكل الفطائر..
- معقول؟ لا شيء أبداً.. على الأقل فطيرتين فقط..!
ابتلعت ريقي بصعوبة.. ثم نكست رأسي للأسفل..
- حسناً..
وانقضضت بعد قليل على الفطيرتين والعصير.. ثم لم أقاوم فطلبت فطيرتين أخريين.. وأتبعتها بقطعة شوكولاته بالبندق..
وحين عدت للمنزل.. كنت أشعر بالخجل من نفسي.. فهذه ليست المرة الأولى ولا العاشرة ولا العشرين التي أبدأ فيها نظاماً غذائياً وأفشل فيه..
حين عدت للمنزل وخلعت عباءتي.. كانت أمي تصلي في غرفتها..
ذهبت وجلست على سريرها.. وحين انتهت.. نظرت إليّ..
- دانة.. ما بك؟ لم تلحي في طلب الغداء اليوم؟
- لا شيء.. أشعر بالكآبة..
- أعوذ بالله.. هل حصل شيء اليوم..
- لا.. فقط هكذا..
كانت أمي ترتب ثوب الصلاة وتلفه داخل السجادة.. أخذت أنظر إليها.. جسمها جميل.. لا أحد يصدّق أنها أمي.. فهي تبدو أصغر مني سناً.. أشعر بالخجل حين يراني أحد معها..
وفجأة قالت..
- زواج شيماء سيكون بعد بداية العطلة بأسبوع..
شعرت بالقلق والارتباك.. فأنا لم أتوقع أن زواج ابنة خالتي سيكون قريباً لهذه الدرجة..
- والله؟!
- نعم.. اليوم قالت لي خالتك ذلك.. فهم لم يجدوا حجزاً إلا في ذلك اليوم..
سكتت أمي ثم تابعت..
- ليس أمامنا الكثير لنتجهز للحفل علينا أن نفصّل أو نشتري الملابس المناسبة فليس هناك سوى أربعة أسابيع فقط والمشاغل الآن مزدحمة جداً..
شعرت بالحسرة والحزن.. فأي شيء له علاقة بالملابس يصيبني بالكآبة ويعيد أحزاني ومواجعي..
أعرف كم تبدو ملابس السهرة مضحكة عليّ.. وأعرف كم أبدو سخيفة مقارنة بأجسام بنات أخوالي وخالاتي اللاتي يتقافزن كالغزلان.. لا.. لا أريد أن أكون نكتة الحفلة بكيلو غراماتي المائة..
لم يكن أمامي سوى خيار واحد.. أن أنحف.. نعم.. ساعدتني صديقتي دلال.. فأحضرت لي ورقة بها ريجيم كيميائي مذكور أنه يمكن أن ينحف أربعين كيلو.. وقررت أن أتبعه..
بدأت بالنظام.. وكنت أشعر بالتعب والإرهاق لكن لأول مرة في حياتي كان لدي العزيمة والمقاومة..
واستمريت طوال ثلاثة أسابيع.. حتى في أيام الاختبارات رغم أني في سنة ثالث.. كنت أختبر وأنا أشعر بالدوار الشديد..
وحين وقفت على الميزان.. كانت المفاجئة أني بالفعل قد نقصت خمسة عشر كيلاً.. يا سلاااام!!
أصبحت أرتدي مقاسات أصغر بكثير.. لكن هذا الدوار كان يتعبني جداً..
وفي يوم الحفل.. كنت قد نحفت لكني لا أزال بدينة.. ولا يزال الفستان غير أنيق على جسمي المترهل.. وحين وصلت العروس وجلست وبدأت الأناشيد ودفوف الفرح.. صعدت لأسلّم على ابنة خالتي..
ومع تطاير دخان البخور.. وتعالى زغاريد الفرح والأصوات.. والإضاءة القوية.. شعرت بالدنيا.. تدور.. وتدور.. وسقطت قبل أن أصل.. سقطت أمام العروس.. بل عند قدميها وكأني أتيت لأقدّم نفسي قرباناً!!!
كان منظري مضحكاً ومحزناً في نفس الوقت..
(مسكينة) (يا حرام داخت) سمعتها كثيراً تدور في أذني..
كنت كالغريقة.. أرى الناس يسبحون في عالم متحرك وبالكاد أفهم ما يقولونه.. أتت أمي مسرعة وسحبتني مع بنات خالاتي.. وفي إحدى الغرف الجانبية.. أتت طبيبة إسعاف لتكشف عليّ عندما طالت إغماءتي..
- يجب نقلها للمستشفى حالاً.. لديها هبوط حاد جداً في الضغط..
- ماذا؟
- يبدو أنها لم تأكل شيئاً أليس كذلك..؟
- يبدو ذلك فأنا لم أرها تأكل اليوم سوى الزبادي..
وأسرع والدي وخالي ينقلاني للمستشفى بعيداً عن الحفل الذي لم أستمتع به.. وفي المستشفى اكتشفوا أن لدّي فقر دم شديد وهبوط.. كما أن دقات القلب لدي غير منتظمة.. وهذا مؤشر خطر.. كما أن الريجيم الغير صحي سبب لي جفافاً.. وبقيت في المستشفى لمدة يومين حتى استعدت عافيتي..
وحين خرجت شعرت برغبة عارمة في الأكل
وتعويض أيام الجوع السابقة.. كانت شهيتي مفتوحة بشكل ليس له مثيل.. وساعدتني أمي – هداها الله – بتقديم أشهى الأطباق لي بحجة تغذيتي..
وأصبحت لا أتوقف لحظة عن الأكل.. وامتلأ دولابي بالحلويات والبطاطس كما كان من قبل.. وخلال شهر واحد.. عاد وزني لسابقه.. ثم ازداد.. ازداد عشرون كيلو غراماً!!
نعم أصبح وزني مع بداية الدراسة مائة وعشرون كيلو!.. وعرفت فيما بعد أن هذا أثر طبيعي لاستخدام الريجيم الكيمائي حيث يصبح الجسم قابلاً للزيادة أكثر مما كان.. فيزداد الوزن بعد الانتهاء منه بشكل غير طبيعي..
وانعزلت عن الحياة.. وأصبحت أكره الاجتماعات.. أكره السوق حتى لا أرى الملابس الجميلة وأنا لا أستطيع لبسها.. حتى الأحذية لم أعد أجد حذاءً مناسباً لي فرجلي صغيرة لكنها ممتلئة جداً.. حتى أنني أصبحت أطلب أحذيتي من محل معيّن يقوم بتفصيل الأحذية في دولة مجاورة.. وأفكر.. إنه حذاء السندريلاااا الدبة!!
ومع تخرجي من الثانوية.. وعدم قبولي في أي كلية.. ومع الفراغ.. كان الدافع لدي معدوماً.. لكن ذات يوم.. سمعت أمي تتحدث في الهاتف لخالتي دون أن تعلم.. وتقول..
- ومن يخطبها يا هيا.. مسكينة.. أنت لم تأتي منذ عدة أشهر ولم تريها.. لقد ازدادت سمنة..
لم أستطع أن أكمل الحديث وأسرعت لغرفتي أبكي.. أقفلت الباب عليّ.. ورميت نفسي على السرير.. وأخذت أبكي وأبكي.. كم أود لو أستمتع مثل بقية الفتيات.. أن ألبس وأتزين.. وأن أخطب في المناسبات.. يا الله ساعدني وارحمني.. يا ربي.. ارحم حالي.. وخلصني من هذه البدانة يا رب..
وهنا.. قررت أن أعاهد نفسي أن أجعل الجميع ينظر لي بعين أخرى بعد الآن.. لماذا أجعل الآخرين ينظرون لي دائماً بعين الشفقة أو الاحتقار لماذا؟ إن الحل بيدي وليس بيد شخص آخر.. والله سبحانه وتعالى سيعينني إن توكلت عليه..
وتوكلت على الله ووضعت لي نظاماً معقولاً صممته بنفسي من خلال كتب التغذية التي أصبحت أقرأها كثيراً.. كما قررت أن أمارس الرياضة لمدة نصف ساعة يومياً.. أجري في فناء المنزل أو أتمرن على الجهاز الرياضي الذي في غرفتي.. وأشرب الكثير من السوائل.. وعاهدت نفسي أيضاً أن أصوم كل يومي اثنين وخميس وأفطر إفطاراً معقولاً..
فالصيام يعود الجسم على التحمل وقلة الطعام كما ينظف الدم من الشوائب والسموم.. وابتعدت عن الحلويات وقللت من أكل المطاعم.. وأصبحت أكثر من الفواكه والخضار والأطعمة المسلوقة والمشوية.. وفيما عدا ذلك لم أحرم نفسي كثيراً..
والحق يقال أن وزني لم ينزل بسرعة في البداية.. كنت أنزل ببطء شديد لكن جسمي كان يبدو مشدوداً أكثر بكثير من المرة السابقة.. وصغرت مقاسات ملابسي كثيراً.. وأصبحت أشعر بحيوية ونشاط وإقبال على الحياة..
لقد تغيرت حياتي تماماً.. وما أن حل الصيف التالي إلا وقد أصبح وزني خمسة وستون كيلو غراماً فقط... لقد نزلت خمسة وخمسين كيلو غراماً خلال عشرة أشهر.. إنها المعجزة التي حصلت بفضل الله سبحانه وتعالى.. ثم بإرادتي وعزيمتي..
تغير شكلي تماماً وأصبحت أبدو أصغر من عمري بعدة سنوات.. حتى وجهي أصبح أكثر تورداً مع عنايتي بالتغذية الصحيحة.. أصبحت أحب الاختلاط بالآخرين وأحب أن أزور أقاربي ولم أعد أشعر بالحرج من نظرات الآخرين..
وما أن حل زواج ابنة خالي منى حتى كنت أول الحاضرات.. وهذه المرة كنت أمشي بكل ثقة بين الحاضرات وأنا أسمعهن يتهامسن..
من هذه؟ من تكون؟
معقول دانة؟ هذه دانة بنت منيرة؟ لا يمكن! كيف؟
ما شاء الله..
كيف تغير شكلها هكذا؟
كنت أحمد الله سبحانه وتعالى أن استجاب لدعائي.. وشعرت وأنا أسير..
أني قد رميت شخصيتي الأولى.. تلك الفتاة البدينة المنكسرة المعدومة الثقة في نفسها..
موضع نظرات السخرية والشفقة..
إنني الآن.. فتاة أخرى.. فقد دفنت دانة.. (الدبة)!

**