عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 03-01-2012, 04:02 AM
الصورة الرمزية أم عبد المنعم
أم عبد المنعم أم عبد المنعم غير متواجد حالياً
مشرفة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2011
المشاركات: 1,256
افتراضي

أيها الإخوة :
وحيث إن قيام الليل – كما قلت – عبادة جليلة ، وقربة عظيمة ، لا ينالها إلا من جاهد نفسه فأصلحها ، ودافع دنياه فودعها ، ودحر شيطانه فغلبه ، وردع هواه فجانبه ، ينبغي عليه أن يعمل بالأسباب التي تعين على قيام الليل ، وقد ذكر علماؤنا – رحمهم الله أسباب كثيرة تعين على قيام الليل أذكر بعضاً منها :
أولها : ترك الذنوب والمعاصي .
فإن الذنوب والمعاصي حاجب بين العبد وبين ربه .
قال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم وقد كثرت خطيئتك .
وذكر عن الحسن أن قال : إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل .
وقال سفيان الثوري : حرمت قيام الليل بذنب أحدثته منذ خمسة أشهر .
وحينما اشتكى شاب إلى الحسن عدم قدرته على القيام بالليل قال له الحسن : قيدتك خطاياك .
وقال بشر بن الحارث : لا تجد حلاوة العبادة حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً .
وقيل لابن مسعود : ما نستطيع قيام الليل ، فقال : أقعدتكم ذنوبكم .
فالذنوب والمعاصي حاجب بين الإنسان وبين ربه ، وخاصة هذه العبادة التي لا يوفق لها إلا القليل .
وثانيها : من الأسباب التي تعين على قيام الليل قلة الأكل .
لأن الشّبَع مذموم ، فهو يكسل عن العبادة ، فعلى العبد أن لا يكثر الأكل والشرب حتى لا يغلبه النوم ويثقل عليه القيام .
ولذلك قيل : لا تأكل كثيراً ، فتشرب كثيراً ، فتنام كثيراً ، فتتحسر كثيراً ؟
وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع في الآخرة ) .
قال عمر : إياكم والبطنة ، فإنها ثقل في الحياة ونتن في الممات .
وقال لقمان لابنه : يا بني ! إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وقعدت الأعضاء عن العبادة .
وقال أبو سليمان الداراني : من شبع دخل عليه ست آفات : فقْد حلاوة المناجاة ، وتعذر عليه حفظ الحكمة ، وحرمان الشفقة على الخلْق ، لأنه إذا شبع ظن الخلق كلهم شباعاً ، وثقل العبادة ، وزيادة الشهوات .
وقال محمد بن واسع : من قلّ طُعْمه فهِم وأفْهم وصفَى ورقّ .
وقال عمرو بن قيس : إياكم والبطنة ، فإنها تقسي القلب .
وقال الحسن البصري : كانت بلية أبيكم آدم أكلة ، وهي بليتكم إلى يوم القيامة .
وقد قيل : إذا أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل .
وقال إبراهيم بن أدهم : من ضبط بطنه ضبط دينه .
وثالثها : ومن أسباب قيام الليل دعاء الله تبارك وتعالى أن يوفقك لهذه العبادة .
فالتوفيق لقيام الليل هبة ربانية ، وعطية رحمانية ، يمنّ الله بها على من كان مستحقاً لها من عباده ، ومؤهلاً للخلوة به سبحانه ومناجاته ، فالجأ إلى ربك ومولاك ، وانطرح بين يديه ، وتوجه بقلبك وقالبك إليه ، واعتمد وتوكل عليه ، واسأله وهو العزيز القهار ، المهيمن الجبار ، بلسان الذل والافتقار ، أن يوفقك لقيام الأسحار ، وأن يمن عليك فيها بالدموع والخشوع والانكسار ، وأن يحشرك مع الأبرار .
وقد أمرنا الله عز وجل بدعائه في كل وقت وفي كل حين فقال (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) .
وأرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإكثار من الدعاء والتضرع إليه ، فقال صلى الله عليه وسلم ( الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ) .
فعليكم عباد الله بالدعاء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين ) .
ولذلك يقول ابن القيم : وما أُتيَ من أتيَ [ يعني هلك من هلك ] إلا من قِبل إضاعة الشكر ، وإهمال الافتقار والدعاء ، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر وصدق الافتقار والدعاء .
كان أحد العلماء يقول في سجوده : اللهم اشفني من النوم باليسير .
فيا أخي المسلم : بادر واخضع وانكسر بين يدي الله عز وجل أن يوفقك وأن يجعلك من المخلصين في القيام بهذه العبادة التي نرى أن القليل من يقوم بها ، لأن القيام بهذه العبادة توفيق ومنّة من الله عز وجل ، ورحمة من الله ، فتضرع واجتهد وادع الله عز وجل أن يعينك وأن يوفقك مع فعل الأسباب التي تعين على ذلك .
ورابعها : ومن الأسباب أكل الحلال والابتعاد عن الحرام .
يقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية : يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدلّ هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بهما أتم القيام ، وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالة ونصحاً .
فإذاً الحلال معين على الطاعة .
ومما يدل أيضاً على أن أكل الحرام يمنع من العمل الصالح الحديث المشهور عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ... ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك ) رواه مسلم .
فالدعاء عبادة وطاعة ، فحُرِمها الإنسان لأكلهِ الحرام ، فأكل الحرام مانع من الطاعة ، وأكل الحلال معين في أن يتربى هذا الجسم على الطيب .
وخامسها : ومن الأسباب التي تعين على قيام الليل سلامة القلب من الغل والحسد والبغضاء .
فإن أمراض القلوب من الغل والحسد لا يُوفق صاحبها للخير ، لأنها أمراض خطيرة ، فينبغي على المسلم أن يجتهد أن يكون قلبه طاهراً سليماً حتى يوفق للطاعات .
قال صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بخير الناس ؟ كل مخموم القلب ، صدوق اللسان ، قالوا : صدوق اللسان نعرفه ؟ فما مخموم القلب : قال : الذي لا غل ولا حسد ولا بغي ) .
وسادسها : ومن الأسباب قصر الأمل .
على الإنسان أن يكون أمله قصيراً ، وقصر الأمل العلم بقرب الرحيل ، وأنه في أي لحظة من اللحظات سوف يرحل من هذه الدنيا ، وهو أحسن علاج للقلب ، وهو أحسن علاج للنشاط في الطاعة ، فمتى علم الإنسان أنه لا يدري متى يفجأه الموت ومتى يزوره ملك الموت ، ربما الآن ، ربما بعد لحظات ، فإن ذلك منشط ومقوٍ له للطاعة والعبادة ، ولذلك حذرنا علي من طول الأمل فقال : أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى ، طول الأمل ينسي الآخرة ، واتباع الهوى يصد عن الحق .
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) .
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ) .
فينبغي على المسلم أن يعرف أن حياته في هذه الدنيا قليلة ، وأن ما يزرع فيه من خير سيجده ، وأنه لن ينفعه إلا عمله الصالح ، لحظات وتمضي هذه الدنيا ، أين الرسل ؟ أين الصحابة ؟ أين أجدادنا ؟ كلهم رحلوا .
كل ابن أنثى وإن طالت سلاماته يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
وسابعها : ومن الأسباب كثرة ذكر الله تعالى .
لأن ذكر الله قوة ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي وفاطمة وعلمها أن يقـولا قبل النوم : سبحان الله 33 ، والحمد لله 33 ، والله أكبر 34 ، وقال : خير لكما من خادم .
فدل هذا على أن ذكر الله يعطي الإنسان قوة ، وفعلاً حينما يعتصم الإنسان بالله العظيم ، ويلتجىء إلى الله ويكثر من التسبيح والاستغفار فإن ذلك يعطيه قوة فلا يجد صعوبة في قيام الليل .
وثامنها : ومن الأسباب القيلولة .
يحاول الإنسان أن ينام في وسط النهار ، وفي بعض الآثار ( استعينوا بالقيلولة على قيام الليل ) وفي بعضها (قيلوا فإن الشياطين لا تقيل) وجاء في حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ( استعينوا بطعام السحر على صيام النهار ، واستعينوا بالقيلولة على قيام الليل ) .
إخواني :
وأخيراً :
اغتنموا هذه الساعات التي يفتح فيها الباب ويقرب فيها الأحباب ويسمع الخطاب ويُرد الجواب ويعطى للعاملين أجزل الثواب ، هي ليالي ذاهبة عنكم بأفعالكم ، وقادمة عليكم غداً بأعمالكم ، فيا ليت شعري ! ماذا أودعتموها ، وبأي الأعمال ودعتموها ، أتراها ترحل حامدة لصنيعكم ، أم ذامة لتضييعكم ، هي ليالي عتق ومباهاة ، وأوقات أنس ومناجاة ، وساعات قرب ومصافات .
فيا ليالي المتهجدين اشهدي ، ويا ألسنة السائلين جدّي في المسألة واجتهدي .
أخي المسلم :
قم في ظلام ليلك ، واستغفر ربك من تقصيرك وكثرة نومك ، واسكب دموع الانكسار ، وقل بلسان الذل والافتقار : يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي ، ويا شموس التقوى والإيمان اطلعي ، ويا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي ، ويا قلوب المتهجدين اخشعي ، ويا أقدام التائبين اسجدي لربك واركعي ، ويا عيون المذنبين لا تهجعي ، ويا ذنوب التائبين لا ترجعي ، ويا أرض الهوى ابلعي ماءك ، ويا سماء النفوس أقْلعي ، ويا خواطر العارفين اركعي ، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي ، فهاهي موائد الإنعام قد مدت في جنح الظلام ، فما منكم أحد إلا وقد دعي : يا قومنا أجيبوا داعي الله ، فيا همم المؤمنين أسرعي ، فطوبى لمن أجاب فأصاب ، وويل لمن طُردَ عن الباب وما دُعي .
أسأل الله تبارك وتعالى أن نكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات ، وترك المنكرات .
اللهم أصلح قلوبنا ونياتنا وذرياتنا .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد .


توقيع : أم عبد المنعم


رد مع اقتباس